يسمى الطبيب في لبنان "حكيما"... ربما هي المرة الأولى التي أقتنع فيها بمهنتي ...فأنا أقول دائما لنفسي بأنها أخطأت في إختيار ما ستفعله فيما تبقى من عمرها، تشخيص الأمراض والبحث عن الطريقة الأنسب لعلاجها ... ولكني في نفس الوقت لم أجد ما يضاهيها في الإستقلالية والنبل وأبواب الخير وفرص السفر الذي توفره، و لو عدت عشر سنوات إلى الوراء لاخترت الطب بدون تردد لكني كنت أفضله في بلد اخر يحترم الإنسان والعلم، فإن كان ولا بد من المغرب لاخترت ما سواه من الدراسات في ما سوى جامعة محمد الخامس التقليدية البئيسة.
في الحقيقة، تستحق العشر سنوات التي قضيتها بين كلية الطب والمستشفيات الجامعية أن تكون موضوع بحث يكون ناصحا ومثبتا لكل مغامر شجاع ،يريد خوض تحدي الحفاظ على المبادئ الإنسانية التي جعلته يختار هذه الشعبة ، من الثقة في النفس و حب العلم ، التي تجعله يتميز دراسيا طوال هاته السنوات ، في الثانوية أولا ثم ثمانية في الطب العام ثم خمس في التخصص ... لأنه حتما سيواجه سلسلة من التجارب و المراحل التي تكسر الإرادة وتفقد الثقة و تقتل فيه حب العلم، تجربة مريرة تجعل تفكير الطبيب العام أو الإختصاصي يتجه بعد تخرجه مباشرة إلى الإنتقام، وإسترجاع ما ضاع من شبابه وما خدش من كرامته، فيتطلع إلى توظيف كنزه العلمي الثمين في جمع الأموال الطائلة دون رحمة أوشفقة بمريض محتاج أحيانا، ثم رد الصاع صاعين إن هو أصبح أستاذا جامعيا، أولا بإحتكار العلم الذي كلفه أغلى سنوات عمره، وثانيا بالتفنن بإهانة من هم تحته من الطلبة إنتقاما، من الطب، من المجتمع ربما، الذي لم ينصفه عندما كان ذليلا مهانا لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ...حلقة مفرغة من الظلم و رد الظلم بالظلم ضحيتها الأولى إنسانية الطبيب و أخلاقه، وصحة المرضى والمجتمع
ربما لأني لم أعد أطيق البيروقراطية الطبية التي تجعل الطبيب يلهث في أروقة مستشفى ابن سينا الحزينة وراء نتائج الأشعة و التحليلات و أراء الإختصاصيين، وربما لأني لا أجد أية متعة في تدارس الملفات المعقدة، والتفكير بعمق عن المرض الذي يمكنه أن يعطي أعراض ما، ثم محاولة التأكد من ذلك مرات و مرات لكي تعطي في الأخير دواء، لا يعالج دائما الأصل و ذو نتائج بينية و أعراض جانبية ... لكل هذا فررت إلى الجراحة التي تستقبل مرضى يحملون رسائل مكتوب عليها إسم المرض، ينوموهم لك قبل أن تبدأ عملك الفني الممتع الذي يحل أصل المشكل، البعيد كل البعد عن الأوهام و الجدال العلمي و أطماع شركات الأدوية
الجراحة متعة و بساطة و حقيقة و فعالية
يسمى الطبيب في لبنان "حكيما"، كما هو الحال في باقي دول الشام، لأن من هذه المنطقة خرج علماء لم يكن همهم هو تعلم الطب من أجل الغنى و لا من أجل كسب الإحترام و لا مساعدة المحتاجين في أوقات الفراغ ... بل كانوا يتعلمونه لأنه يدخل ضمن فصول الحكمة التي نالوها بعدما أنهلوا من العلوم الإنسانية الأخرى، وتبحروا في علوم الشرع، فأصبحوا بذلك حكماء بحق، يعالجون مشاكل القوم الإجتماعية وأمراضهم الفكرية و قضاياهم الشرعية، يعالجون نفوسهم كما يعالجون أبدانهم، فيعطون الجواب الكافي للسائل المحتار و الدواء الشافي للمريض العليل
صحيح أن العلوم لم تكن في ذلك الوقت بهذا الكم الهائل من المعلومات و التخصصات التي هي عليها اليوم، و ربما لهذا السبب نجح كثير من العلماء في أن يكتبوا في أكثر من مجال و يبدعوا في أكثر من علم... و لكنها في نفس الوقت لم تكن بالتقسيم و العلمنة التي هي عليها الان بحيث أصبح المتعلم لا يفقه و لا يتقن إلا ميدان تخصصه الضيق و يحصر مداركه الغير متناهية في حيزصغير و لا يربط علمه ولاعمله بغاية عقدية أورسالة كونية، ولكن من أجل إثبات الذات و تربع قمم الأهرام العلمية، فيتحول إلي وسيلة ويسمى دكتور، يسدل خدمة لمركز البحث أو مصلحة المستشفى أو البلد مثله مثل "الصنبور" و "البابور" و "التراكتور" و لكنه أبعد ما يكون عن الحكمة التي تتجاوز الإحصائيات و النتائج إلى ما هو أرقى غاية و أشمل رؤية، إن التعليم المعاصر ينتج فعلا "التكنوقراط"، شخص أداة يتقن شيئا محدودا يمكن توظيفه بسهولة في إطار سياسة ونظام مرسوم لا يمكنه تجاوزه، في حين أن حضارتنا كانت تنتج ما هو أكبر، علماء ذوي كفاءة في التخصص وإلمام بمجالات الحياة الأخرى و خصوصا ذوي رؤية شاملة نقدية ، قادة كانوا يصلحون المجتمع و يقودون الأمة بحق
و هنا يتسائل المرء، في هذا العصر، هل ليس لنا إلا أن نكون ممتازين في ميدان واحد أو متوسطين في مجموعة منها ؟ ، هل من الممكن أن يتقن المرء كل ما يقوم به من أعمال ؟ و ما هو الأفضل، هل هو العمل الأفقي الذي يتفقد فيه الإنسان تضاريس العلوم أم العمل العمودي الذي يكرس فيه الإنسان حياته من أجل الوصول إلى قمة علم ما ؟ و هل كل هؤلاء القمم العلمية لم يكونوا حكماء؟ وهل الحكيم لا يمكنه أن يكون عالما؟
في نظري، ليس من الممكن للإنسان أن يصبح عالما، يبدع و ينتج و يشتهر في أمر ما إلا بعدما يكرس من أجله أغلب الوقت و أكبر الجهد و معظم التفكير... لأن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، و كلما ازددت من العلم كلما زادك علما بجهلك... كما أنه ليس من الممكن أن يكون الإنسان حكيما إذا لم تكن له معرفة ولو أولية بالتاريخ والفلسفة وعلم النفس وعلم الإجتماع والسياسة والفقه والتفسير وأن يسير في الأرض ويخالط الناس ويتقي الله ... وإلا كانت أرائه غير متطابقة مع واقعه، أو غير مبنية على علم، أو خالية من الإيمان
و لهذا فعلى المرء حينما يصل إلى مفترق حياته الأول الذي يحدد فيه ماذا سيفعله، أن يحدد لنفسه مسارا يناسب تطلعاته و ملكاته و همته ... ألديه فضول شامل لمعرفة كل الأمور ؟ أم فضول محدد في مجال ما ؟ هل سيندم كثيرا إذا لم يفهم تضاريس العلوم أو إذا لم يصل إلى القمة ؟ أيريد أن يكون وسيلة علمية متخصصة، أم سيلا من المعارف و الأفكار؟ أيريد أن يكون عالما متخصصا أم حكيما شاملا ؟
لم أجب بعد على هذه الأسئلة لأني أحب مهنتي و لكن حبي للحكمة أشد... ربما أجدها هنا في الشام، فالطبيب _كما قلت أنفا_ يسمى في لبنان حكيما
في الحقيقة، تستحق العشر سنوات التي قضيتها بين كلية الطب والمستشفيات الجامعية أن تكون موضوع بحث يكون ناصحا ومثبتا لكل مغامر شجاع ،يريد خوض تحدي الحفاظ على المبادئ الإنسانية التي جعلته يختار هذه الشعبة ، من الثقة في النفس و حب العلم ، التي تجعله يتميز دراسيا طوال هاته السنوات ، في الثانوية أولا ثم ثمانية في الطب العام ثم خمس في التخصص ... لأنه حتما سيواجه سلسلة من التجارب و المراحل التي تكسر الإرادة وتفقد الثقة و تقتل فيه حب العلم، تجربة مريرة تجعل تفكير الطبيب العام أو الإختصاصي يتجه بعد تخرجه مباشرة إلى الإنتقام، وإسترجاع ما ضاع من شبابه وما خدش من كرامته، فيتطلع إلى توظيف كنزه العلمي الثمين في جمع الأموال الطائلة دون رحمة أوشفقة بمريض محتاج أحيانا، ثم رد الصاع صاعين إن هو أصبح أستاذا جامعيا، أولا بإحتكار العلم الذي كلفه أغلى سنوات عمره، وثانيا بالتفنن بإهانة من هم تحته من الطلبة إنتقاما، من الطب، من المجتمع ربما، الذي لم ينصفه عندما كان ذليلا مهانا لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ...حلقة مفرغة من الظلم و رد الظلم بالظلم ضحيتها الأولى إنسانية الطبيب و أخلاقه، وصحة المرضى والمجتمع
ربما لأني لم أعد أطيق البيروقراطية الطبية التي تجعل الطبيب يلهث في أروقة مستشفى ابن سينا الحزينة وراء نتائج الأشعة و التحليلات و أراء الإختصاصيين، وربما لأني لا أجد أية متعة في تدارس الملفات المعقدة، والتفكير بعمق عن المرض الذي يمكنه أن يعطي أعراض ما، ثم محاولة التأكد من ذلك مرات و مرات لكي تعطي في الأخير دواء، لا يعالج دائما الأصل و ذو نتائج بينية و أعراض جانبية ... لكل هذا فررت إلى الجراحة التي تستقبل مرضى يحملون رسائل مكتوب عليها إسم المرض، ينوموهم لك قبل أن تبدأ عملك الفني الممتع الذي يحل أصل المشكل، البعيد كل البعد عن الأوهام و الجدال العلمي و أطماع شركات الأدوية
الجراحة متعة و بساطة و حقيقة و فعالية
يسمى الطبيب في لبنان "حكيما"، كما هو الحال في باقي دول الشام، لأن من هذه المنطقة خرج علماء لم يكن همهم هو تعلم الطب من أجل الغنى و لا من أجل كسب الإحترام و لا مساعدة المحتاجين في أوقات الفراغ ... بل كانوا يتعلمونه لأنه يدخل ضمن فصول الحكمة التي نالوها بعدما أنهلوا من العلوم الإنسانية الأخرى، وتبحروا في علوم الشرع، فأصبحوا بذلك حكماء بحق، يعالجون مشاكل القوم الإجتماعية وأمراضهم الفكرية و قضاياهم الشرعية، يعالجون نفوسهم كما يعالجون أبدانهم، فيعطون الجواب الكافي للسائل المحتار و الدواء الشافي للمريض العليل
صحيح أن العلوم لم تكن في ذلك الوقت بهذا الكم الهائل من المعلومات و التخصصات التي هي عليها اليوم، و ربما لهذا السبب نجح كثير من العلماء في أن يكتبوا في أكثر من مجال و يبدعوا في أكثر من علم... و لكنها في نفس الوقت لم تكن بالتقسيم و العلمنة التي هي عليها الان بحيث أصبح المتعلم لا يفقه و لا يتقن إلا ميدان تخصصه الضيق و يحصر مداركه الغير متناهية في حيزصغير و لا يربط علمه ولاعمله بغاية عقدية أورسالة كونية، ولكن من أجل إثبات الذات و تربع قمم الأهرام العلمية، فيتحول إلي وسيلة ويسمى دكتور، يسدل خدمة لمركز البحث أو مصلحة المستشفى أو البلد مثله مثل "الصنبور" و "البابور" و "التراكتور" و لكنه أبعد ما يكون عن الحكمة التي تتجاوز الإحصائيات و النتائج إلى ما هو أرقى غاية و أشمل رؤية، إن التعليم المعاصر ينتج فعلا "التكنوقراط"، شخص أداة يتقن شيئا محدودا يمكن توظيفه بسهولة في إطار سياسة ونظام مرسوم لا يمكنه تجاوزه، في حين أن حضارتنا كانت تنتج ما هو أكبر، علماء ذوي كفاءة في التخصص وإلمام بمجالات الحياة الأخرى و خصوصا ذوي رؤية شاملة نقدية ، قادة كانوا يصلحون المجتمع و يقودون الأمة بحق
و هنا يتسائل المرء، في هذا العصر، هل ليس لنا إلا أن نكون ممتازين في ميدان واحد أو متوسطين في مجموعة منها ؟ ، هل من الممكن أن يتقن المرء كل ما يقوم به من أعمال ؟ و ما هو الأفضل، هل هو العمل الأفقي الذي يتفقد فيه الإنسان تضاريس العلوم أم العمل العمودي الذي يكرس فيه الإنسان حياته من أجل الوصول إلى قمة علم ما ؟ و هل كل هؤلاء القمم العلمية لم يكونوا حكماء؟ وهل الحكيم لا يمكنه أن يكون عالما؟
في نظري، ليس من الممكن للإنسان أن يصبح عالما، يبدع و ينتج و يشتهر في أمر ما إلا بعدما يكرس من أجله أغلب الوقت و أكبر الجهد و معظم التفكير... لأن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، و كلما ازددت من العلم كلما زادك علما بجهلك... كما أنه ليس من الممكن أن يكون الإنسان حكيما إذا لم تكن له معرفة ولو أولية بالتاريخ والفلسفة وعلم النفس وعلم الإجتماع والسياسة والفقه والتفسير وأن يسير في الأرض ويخالط الناس ويتقي الله ... وإلا كانت أرائه غير متطابقة مع واقعه، أو غير مبنية على علم، أو خالية من الإيمان
و لهذا فعلى المرء حينما يصل إلى مفترق حياته الأول الذي يحدد فيه ماذا سيفعله، أن يحدد لنفسه مسارا يناسب تطلعاته و ملكاته و همته ... ألديه فضول شامل لمعرفة كل الأمور ؟ أم فضول محدد في مجال ما ؟ هل سيندم كثيرا إذا لم يفهم تضاريس العلوم أو إذا لم يصل إلى القمة ؟ أيريد أن يكون وسيلة علمية متخصصة، أم سيلا من المعارف و الأفكار؟ أيريد أن يكون عالما متخصصا أم حكيما شاملا ؟
لم أجب بعد على هذه الأسئلة لأني أحب مهنتي و لكن حبي للحكمة أشد... ربما أجدها هنا في الشام، فالطبيب _كما قلت أنفا_ يسمى في لبنان حكيما